لحظة الحقيقة- إيران تواجه أمريكا بين الاتفاق والجحيم

المؤلف: عريب الرنتاوي09.10.2025
لحظة الحقيقة- إيران تواجه أمريكا بين الاتفاق والجحيم

العلاقات المتوترة بين الولايات المتحدة وإيران تقترب من منعطف حاسم، حيث يواجه البلدان مسارًا تصادميًا ينذر بالخطر. تتصاعد حدة الاتهامات المتبادلة والتهديدات إلى مستويات غير مسبوقة، مما يثير تساؤلات حول مستقبل هذه العلاقات المعقدة. تتراوح التوقعات بين التوصل إلى اتفاق جديد يقلص من مكاسب إيران في اتفاق فيينا لعام 2015، وبين "سيناريو الجحيم" الذي لوّح به الرئيس الأميركي السابق دونالد ترامب، هذا بالإضافة لاحتمالات أخرى قد تجمع بين هذين السيناريوهين المتناقضين.

على الرغم من أن نشوب حرب شاملة بين إيران والولايات المتحدة ليس أمرًا محتومًا، إلا أنه من "التهور" استبعاد احتمالاتها المتزايدة، كما يرى العديد من المراقبين المحنكين. لا يعتمد هذا التقدير على مجرد الاستعدادات العسكرية التي يقوم بها البنتاغون و"بناء القوة اللازمة"، بل يستند إلى تصاعد التوترات بشكل حاد في أعقاب أحداث "الطوفان"، مع بروز فريق متحمس للحرب يتمتع بنفوذ قوي في كل من واشنطن وتل أبيب. وتُطرح بقوة في هذه الأيام نظرية نفتالي بينيت التي تدعو إلى توجيه ضربة قاصمة إلى رأس "الأخطبوط" وعدم الاكتفاء بتقطيع أذرعه المتعددة والمترامية الأطراف.

إن تحليل التصريحات الأميركية المتضاربة في بعض الأحيان، يكشف عن وجود "تباين" في وجهات النظر داخل الإدارة الأميركية، ولا يمكن وصفه بالانقسام التام، بين أولئك الذين يفضلون إعطاء الدبلوماسية فرصة أخرى، مصحوبة بممارسة "أقصى الضغوط"، وأولئك الذين يؤيدون الانتقال الفوري إلى الحل الأخير، وهو "الكيّ بالنار". وتشمل هذه الخيارات فرض عقوبات إضافية وتجفيف مصادر تمويل إيران وخنق اقتصادها، بالتزامن مع تكثيف قنوات الحوار "غير المباشر"، وربما حتى المباشر، هذا بالإضافة لاستنفار عناصر القوة الصلبة، من حاملات الطائرات والقاذفات والقنابل العملاقة، استعدادًا "لليوم الموعود"، عندما يقرر ترامب، إشعال فتيل الحرب ضد إيران وقادتها.

بينما يرى بعض المراقبين والأوساط السياسية الإقليمية والدولية أن التهديد بـ"الجحيم" ليس سوى تكتيك تفاوضي، وشكل من أشكال المناورات تحت الضغط، بحجة أن إدارة ترامب لا ترغب في الدخول في حروب جديدة، وأن الرئيس الأميركي جاء إلى البيت الأبيض متعهدًا بصنع "سلام القوة"، يعتقد آخرون أن تصاعد التوحش والحرب الاقتصادية التي أطلقتها الإدارة الأميركية، وجرت إليها على جميع الأصعدة، ومع الأصدقاء قبل الخصوم، يجعل من الصعب استبعاد سيناريو الانفجار. فالحد الأدنى من المطالب التي تسعى إليها واشنطن قد لا يتوافق مع الحد الأقصى من التنازلات التي قد تكون القيادة الإيرانية مستعدة لتقديمها، أو بالأحرى، قادرة على تقديمها.

ذروتا الضعف والتوحّش

تخوض إيران هذه المواجهة الشرسة مع الولايات المتحدة وهي في أوج ضعفها، وهو مستوى لم تشهده منذ ما يقرب من ربع قرن، إن لم يكن منذ انتصار ثورتها الإسلامية. فقد أدت الأحداث الأخيرة إلى تقويض العديد من أوراق القوة التي عملت طهران على بنائها بصبر وعناء على مدى أكثر من عقدين من الزمن، والتي كانت تهدف إلى تحويل المنطقة الممتدة من بحر قزوين إلى شرق البحر الأبيض المتوسط إلى "مجال حيوي" لنفوذها ودورها الإقليمي، ومنحها فرصة ثمينة للدفاع عن مصالحها القومية أو توسيعها خارج حدودها.

لقد خاضت إيران حروبًا بالوكالة وبشكل مباشر، باستخدام أدوات غير إيرانية، وكانت حتى وقت قريب تحتل مكانة مرموقة في حسابات القوى وقواعد الاشتباك ونظرية "الردع المتبادل".

لكن كل هذا قد انتهى أو اقترب من نهايته، فلم يعد حزب الله يشكل كابوسًا يؤرق إسرائيل، ولم تعد سوريا تحتفظ بموقع "درة التاج" في المحور و"الهلال الشيعي"، وأصبحت حماس والمقاومة الفلسطينية في وضع "إنقاذ ما يمكن إنقاذه"، ويواجه الحوثيون صعوبات جمة في حماية قدراتهم وقادتهم، في حين أن العراق يبتعد تدريجيًا عن الدور الذي كانت تطمح إليه طهران وحلفاؤها المحليون.

وثمة "قراءة استباقية" تشير إلى أن إيران ما كانت لتصل إلى هذا المستوى من الانكفاء والتراجع لو أنها تصرفت في الفترة الماضية بشكل مختلف، مما يثبت أن حصاد "الصبر الإستراتيجي" قد لا يكون دائمًا في صالح "الصابرين المحتسبين"، بل قد ينقلب عليهم ليتحول إلى "هزيمة إستراتيجية" مدوية. وتصدُق مقولة إن "القرار الصائب" يفقد الكثير من قيمته إذا اتُخذ متأخرًا وبعد الكثير من التردد.

إليكم بعض الفرص التي يعتقد المراقبون، وبعضهم من داخل بيئة المحور، أن إيران أضاعتها لبناء توازن ردع مع إسرائيل، وكان من الممكن تجنبها، ولم يعد من الممكن استعادتها مرة أخرى.

من بين هذه الفرص، إحجام إيران، أو عدم قدرتها، عن توجيه ردود رادعة لإسرائيل عندما قصفت قنصليتها في دمشق واعتدت على عمقها في الداخل، واغتيال إسماعيل هنية في قلب المربع الآمن من عاصمتها. وبعد ذلك، توالت فصول "ضبط النفس" و"الصبر الإستراتيجي" التي لم تُقرأ في تل أبيب وواشنطن إلا كتعبير عن "الارتداع" والضعف واستمرار الرهانات الخاسرة على قدرة "الإصلاحيين" و"المعتدلين" الإيرانيين على تجنيب البلاد ويلات الجشع والتوحش اللذين يضربان بجذورهما في حكومة نتنياهو وإدارة ترامب.

هنا نفتح قوسين لنقول إن الحاجة أصبحت ملحة لإعادة فتح ملف التحقيق في حادثة المروحية التي أودت بحياة الرئيس رئيسي ووزير الخارجية حسين عبداللهيان، خاصة في ظل واقعة "البيجر" واللاسلكي التي وجهت ضربة قاصمة لحزب الله وكادت أن تفقده توازنه تمامًا.

نقول ذلك ونحن نؤمن بأن التاريخ ليس مجرد مؤامرة محكمة، ولكنه حافل بالمؤامرات، خاصة وأننا نعيش في عصر "الذكاء الاصطناعي" وحروب الجيل السادس و"السيبرانيات" متعددة الاستخدامات.

بالإضافة إلى ما سبق، خاضت إيران تجربة "الطوفان" في ظل انقسامات وتناقضات داخلية، وانشغالات في صراعات الإصلاحيين والمتشددين، بينما على الجبهة المقابلة، كان الموقف موحدًا وصلبًا تجاه كل ما يمس إيران وحلفاءها. وقد تجلى ذلك في عهد إدارة بايدن، وأصبح أكثر وضوحًا مع هبوب رياح "الترامبية" على مؤسسات صنع القرار في واشنطن، حيث اختلف أعداء إيران حول كل شيء باستثناء استهدافها، فقد كانوا متفقين تمامًا على ذلك.

ظل الخطاب الإيراني منقسمًا بين أصوات تدعو إلى التهدئة و"حفظ الذات" و"عدم الانجرار" من جهة، وأخرى تتوعد بالويل والثبور وعظائم الأمور من جهة أخرى. إلا أن الصوت الأول لم ينجح في كبح الشهية العدوانية لإسرائيل وحليفتها، في حين أن الصوت الثاني لم يتمكن من إرساء قواعد ردع متبادل.

لقد مكن التردد الإيراني إسرائيل والولايات المتحدة من الانفراد بجبهة غزة وجبهات الإسناد الواحدة تلو الأخرى، وسقط مفهوم "وحدة الساحات" ليحل محله مفهوم تعاقبها وتتاليها، الذي تطور وفقًا لمتطلبات الحرب والجبهات من الطرف الآخر، فكان لهم ما أرادوا، بدءًا بغزة وليس انتهاء بلبنان، مرورًا بـ"انقلاب المشهد" في سوريا، وتبادل الأدوار في استهداف أنصار الله بين الحليفتين الإستراتيجيتين، وصولًا إلى وضع طهران في أضيق الزوايا.

وحتى عندما تأكد لإيران أن فتح جبهات الإسناد لم يوقف الزحف الهمجي على غزة ومقاومتها، وهو الهدف الذي فُتِحَت من أجله هذه الجبهات، اعتمدت طهران "تكتيك إنقاذ ما يمكن إنقاذه"، بدلًا من اللجوء إلى ما كان يراهن عليه بعض حلفائها، وهو فتح الجبهات بكامل قوتها وفي تزامن وتوازن، ليس بهدف إزالة إسرائيل كما كان يظن المتفائلون، بل على الأقل للوصول إلى "صفقة شاملة" أكثر إنصافًا لفلسطين ولبنان، انطلاقًا من قراءة لأحداث "طوفان الأقصى" لا بوصفها نهاية المطاف، بل كجولة تتبعها جولات أخرى.

ومن الدلائل الأخرى على هذا "التردد"، أداء إيران تجاه برنامجها النووي، الذي يحتل اليوم مكانة مركزية في التفكير الإستراتيجي الأميركي والإسرائيلي. ففي سياق الأحداث الأخيرة، وبعد صدور أصوات في الكنيست والكونغرس تطالب باستخدام "النووي" ضد غزة، بدا أن طهران بصدد مراجعة "عقيدتها النووية" وأنها قررت تجاوز "العتبة" والدخول إلى نادي الردع النووي.

وقد صدرت تصريحات عدة عن وزير الخارجية عبداللهيان وخلفه عراقجي وغيرهما، ساهمت في ترسيخ الاعتقاد بأن طهران قررت حماية نفسها بامتلاك القنبلة. وكما قال عراقجي في آخر نسخة من الحوار العربي الإيراني، فإن العقيدة المعمول بها منذ ربع قرن لم تردع الأعداء ولم ترفع العقوبات ولم تدفع الغرب لتَخلِيَة الشرق الأوسط من أسلحة الدمار الشامل، بل ولم تُقنع أوساطًا نافذة فيه بحق إيران في امتلاك برنامج نووي سلمي بدورة تخصيب كاملة تحت السيادة الإيرانية.

خلقت هذه المواقف انطباعًا لم تمحوه مواقف مترددة صدرت عن فريق إيراني آخر، بأن طهران ستجري أول تفجير نووي قبل مغادرة إدارة بايدن، وربما في الفترة "الرخوة" بين إدارتين. ولكن ذلك لم يحدث. فقدت إيران مظلتها النووية وفقد برنامجها مظلته الدفاعية بعد الضربات المؤلمة التي تعرضت لها على يد سلاح الجو الإسرائيلي، بتسهيل من القواعد وحاملات الطائرات الأميركية المنتشرة في المنطقة.

اليوم، تواجه إيران وضعًا بالغ الدقة والتعقيد وهي في مكانة أضعف مما كانت عليه إبان التفاوض على اتفاق فيينا. والولايات المتحدة ليست متحمسة لمفاوضات تحت مظلة "5+1"، وهي لن تكتفي بضمانات عدم تسليح وعسكرة برنامجها النووي، بل ثمة أصوات تطالب بتفكيك البرنامج السلمي وتجريد إيران من حقها في امتلاك دورة تخصيب، وبضمانات ورقابات أميركية مشددة.

صحيح أن واشنطن لا تتعامل مع إيران بوصفها أوكرانيا ثانية ولا مع قيادتها على أنها "زيلينسكي 2"، ولكن الصحيح أن نهج الإدارة الجديدة يدفعها ومن خلفها تل أبيب إلى الذهاب لأبعد مدى في تجريد إيران من عناصر قوتها واقتدارها، ليس العسكرية منها فحسب، بل والعلمية والتكنولوجية كذلك.

وإذا كان المفاوض الإيراني قد نجح طيلة عشرين عامًا في فصل الملف النووي عن بقية الملفات الخلافية مع الغرب، من بينها "البرنامج الصاروخي" و"دور إيران المزعزع للاستقرار"، فإن واشنطن اليوم، تحت قيادة الرئيس ترامب الذي "لا يمزح" في التطلع لولاية ثالثة، تريد وضع هذه الملفات جميعها على طاولة التسويات، تحت طائلة الخنق الاقتصادي والجحيم العسكري.

وكما ذكرنا، لا يعني ذلك للحظة واحدة، ويجب ألا يعني، أن ما تريد واشنطن فرضه من إملاءات على طهران قد بات أمرًا لا مفر منه، وأن الضغوط الأميركية ستنجح في انتزاع ما تريده من مكاسب لها ولحليفتها، أو أنها ستسهل خوض غمار حرب جديدة في المنطقة قد تتسع وتطال شراراتها مصالح أميركية وحليفة ثمينة. لكن الصحيح أن طهران تخوض مواجهتها مع واشنطن اليوم من أدنى نقطة بلغتها خلال ربع القرن الأخير، في حين أن خصومها في لحظة "زهو بالقوة" وشهية تل أبيب مفتوحة للتوسع وإغلاق الملفات وصولًا إلى "النصر المطلق"، ليس على حماس وحدها، بل وعلى طهران بالأساس.

هذه الحالة، بعضها "موضوعي" يتعلق بموازين القوى وتوازناتها وباللحظة الحرجة في نظام العلاقات الدولية، بيد أنها في جزء منها على الأقل "ذاتية" تتعلق بأداء النظام الإيراني في مرحلة ما بعد السابع من أكتوبر/ تشرين الأول، حيث خابت بعض الرهانات وضاعت العديد من الفرص.

سياسة الخصوصية

© 2025 جميع الحقوق محفوظة